الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من بعثه ربه رحمة للناس أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين وبعد:
فإن من أهم صفات الداعية الموفق، أنه رحيمٌ بالناس رفيقٌ بطباعهم، صبورٌ على جهلهم وإعراضهم، يتألف النفوس الناشزة، ويضمد الجراحَ الغائرة، بأرقِّ عبارة وألطف إشارة..
والرحمة- لعمرو الله- سنةُ الأنبياء والمرسلين، وسمتُ الهداة المصلحين.. وتأمل معي- يا رعاك الله- في الأسلوب الرحيم الذي علمه ربنا سبحانه لموسى وهارون- عليهما صلوات الله وسلامه- في دعوة فرعون: {فقولا له قولًا لينا، لعله يتذكر أو يخشى} [طه: 43] ثم تأمل كيف علَّمَ موسى من القول اللين أحسنَ ما يخاطَبُ به طاغيةٌ متجبرٌ فقال تعالى: {فقل هل لك إلى أن تزكى. وأهديك إلى ربك فتخشى} [النازعات: 18] وانظر- حبيب القلب- إلى الخطاب الدعوي الرقيق الذي وجَّهه خليلُ الرحمنِ إبراهيمُ عليه السلام إلى أبيه المشرك: {إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطًا سويًّا يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا} [مريم: 42- 45].
إن الداعية في ميادين الدعوة والبلاغ، ليواجه نفوسًا معرضةً كثيرة، أجهدتها أمراض الشبهات، وأرهقتها فتن الشهوات، فماذا عساه أن يفعل؟ أيذرُها لشياطين الأنس ترديها في نار السموم، أم يبادر للإصلاح، فيأخذ بيد عاصٍ إلى المسجد، يسمعُه الآية والحديث، يرفق ويصفح، ويرشد وينصح، يقمع الشهوةَ ويدحضُ الشبهة، ومن ثَمَّ يلحقُه بركب الدعاةِ وموكب الهداة، الذين وصفهم ابنُ تيمية بأنهم (يعلَمُون الحق ويرحمون الخلق) فيكون برحمته ورِفقِه متبعًا نبينا صلى الله عليه وسلم {فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظًّا غليظ القلب لانفضوا من حولك. فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر} [آل عمران: 159].
وانظر كيف كان إمامُنا وأسوتُنا- عليه الصلاة والسلام- يستلُّ أضغانَ الجاهلين، ويجذبُ قلوبَ المعرضين، فتارة يصبر على أعرابي آمرًا بغسلِ بوله بذنوبٍ من ماء، فيغسل قلبَه من أدرانِ الجهل، وتارة يوجِّهُ أمَّ المؤمنين عائشةَ إلى الرفقِ في الأمر كله، لما أجابت يهودَ بما يقمع سفاهتَهم، وتارة يعطي أناسًا العطاء الوافر يتألفُهم على التوحيد..
وإنه- لأيم الله- لهديٌ نبويٌ كريم، ومعلمٌ إيمانيٌ عظيم، يتحلى بحُلله كلُّ من وفقه الله واجتباه، وسدَّده وهداه، فطفح قلبُه رحمةً بالخلق شفقةً عليهم:
وإن الذي بيني وبين بني أخي *** وبين بني عمي لمختلفٌ جدا
فإن هم أكلوا لحمي وفرت لحومهم *** وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا
ولست أحمل الحقد الدفين عليهم *** وليس فقيه القوم من يحمل الحقدا
إن مسلك الغلظة والفظاظة في خطاب القلوب خُلقٌ ذميم، ومرتعٌ وخيم، وانظر- وفقك الله- كيف كان هذا المسلك، يحمل الكثير من الجهلاء على التمسك بجهالاتهم والابتعاد عن السنة، لمَّا كان جهلةُ المتسنِّنَةِ يعرضون السنة عليهم بالغلظة والتحدي، واسمع إلى الإمام الشاطبي وهو يحثك على الرفق في الدعوة إلى الحق فيقول: (قال الغزالي في بعض كتبه: أكثر الجهالات إنما رسخت في قلوب العوام بتعصب جماعة من جُهَّالِ أهلِ الحق، أظهروا الحقَّ في معرض التحدي والإذلال، ونظروا إلى ضعفاء الخصوم بعين التحقير والازدراء، فثارت من بواطنهم دواعي المعاندة والمخالفة، ورسخت في قلوبهم الاعتقادات الباطلة، وتعذر على العلماء المتلطفين محوها مع ظهور فسادها). ثم عقَّب الشاطبي قائلا: (هذا ما قال، وهو الحق الذي تشهدُ له العوائدُ الجارية، فالواجبُ تسكينُ الثائرةِ ما قُدِر على ذلك، والله أعلم). اهـ.
سددنا الله تعالى لحسن القول والعمل، وتجنب الغلظة والخَطَل، والحمد لله رب العالمين.
الكاتب: محمد العيساوي.
المصدر: موقع كتاب عبد الله بن مسعود.